تكاد تلغي البنوك الرقمية تمامًا التفاعل الشخصي أو المباشر بين موظفي البنك وعملائه، ورغم ما تحمله من فوائد عديدة، إلا أنها تحمل أيضًا بعض السلبيات. ففي الوضع التقليدي، يسهم التفاعل الشخصي في صعوبة استخدام المجرمين للهوية المزورة أو إخفاء هويتهم بشكل عام، أما مع البنوك الرقمية، فقد أصبح الأمر أسهل وأكثر بساطة بالنسبة للمجرمين لتجاوز هذا الحاجز.
في هذا الدليل، سنتناول سبل الكشف عن عمليات غسيل الأموال، مع الحرص على ضمان سير تجربة العميل بسلاسة، وتقليل العوائق أو الاحتكاك إلى أدنى حد ممكن.
قبل أن نناقش كيفية الكشف عن غسيل الأموال، دعونا نفهم كيف تتم هذه العملية. عادةً ما تحدث عملية غسيل الأموال غير القانونية عبر ثلاث مراحل رئيسية:
يعد الإيداع الخطوة الأولى، حيث يحاول المجرمون إدخال الأموال غير المشروعة إلى النظام المالي، وغالبًا ما يقومون بتقسيم المبالغ الكبيرة إلى كميات صغيرة وأقل وضوحًا لتجنب اكتشافها.
على سبيل المثال، بدلاً من إيداع 300,000 دولار دفعة واحدة، قد يقومون بإجراء عدة إيداعات بقيمة 9,850 دولار في فروع مختلفة، بحيث تظل تحت الرادار.
في مرحلة التمويه، يبدأ الجاني بتحريك الأموال من خلال سلسلة من المعاملات المالية، مثل شراء الأصول أو تحويل الأموال إلى الخارج، أو حتى الاستثمار في الشركات. الهدف من هذه المرحلة هو إخفاء مصدر الأموال وجعلها صعبة التتبع.
في المرحلة الأخيرة والمعروفة بالدمج، يتم إدخال الأموال غير القانونية مجددًا إلى الاقتصاد الشرعي. قد يتم استخدامها في شراء العقارات أو الاستثمار في الأعمال التجارية أو شراء السلع الفاخرة.
وبعد أن يتم "تنظيف" الأموال عبر هذه المعاملات، يصبح من الصعب للغاية تحديد أنها كانت غير قانونية في الأصل.
يجب على المتخصصين في مكافحة غسيل الأموال اتباع قوانين صارمة تهدف إلى الحد من هذه الظاهرة. وتختلف هذه القوانين حسب المكان، ولكن العديد من البلدان تعتمد على الإرشادات التي وضعتها المنظمات الدولية مثل مجموعة العمل المالي (FATF).
تقدم مجموعة العمل المالي 40 توصية أساسية تشكل الأساس للممارسات العالمية في مكافحة غسيل الأموال. تحدد هذه القواعد كيفية تعامل المؤسسات المالية مع معلومات العملاء، وتحديد المعاملات، والإبلاغ عن الأنشطة المشبوهة.
في الولايات المتحدة، يجب على البنوك الامتثال لقانون سرية البنوك (BSA) الذي تديره هيئة FinCEN، بالإضافة إلى قانون OFAC الذي يفرض العقوبات. أما في أوروبا، فتوجد التوجيهات السادسة لمكافحة غسيل الأموال (6AMLD) التي تتضمن عقوبات شديدة ومسؤوليات واسعة تتعلق بجرائم غسيل الأموال.
تلتزم المؤسسات أيضًا بمراجعة المعاملات مقابل القوائم العالمية للعقوبات، وتضم هذه القوائم تلك الصادرة عن OFAC، والأمم المتحدة، وغيرها من الجهات التي تراقب المجرمين والأشخاص الباروين سياسياً (PEPs). وفي حال تجاهل ظهور أحد العملاء في هذه القوائم، فقد تكون العقوبات شديدة للغاية.
مهما كان مكان عمل المؤسسة المالية، سواء في الولايات المتحدة أو المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة أو أي ولاية قضائية أخرى، يجب على جميع البنوك والمؤسسات المالية تنفيذ إجراءات العناية الواجبة التي تشمل الامتثال لقواعد اعرف عميلك (KYC) لضمان التوافق مع لوائح مكافحة غسيل الأموال.
تعد فحوصات إجراءات اعرف عميلك KYC أمرًا حيويًا، إذ يصبح من المستحيل تقريبًا اكتشاف غسيل الأموال دونها. فكر في الأمر: إذا كان شخص ما يستخدم هوية مزورة لفتح حساب، وإذا كانت عملية KYC ضعيفة وسمحت له بفتح الحساب، فسوف يتمكن من استخدام هذا الحساب في غسيل الأموال. ولكن إذا تم تنفيذ فحوصات KYC بشكل دقيق، سيتم رفض طلبه لفتح الحساب منذ البداية، وفي معظم الحالات سيُصنف كحالة مشبوهة.
أحد أفضل وسائل مكافحة غسيل الأموال هو معرفة من هم عملاؤك بدقة. لذا، فإن عملية اعرف عميلك (KYC) تهدف إلى التحقق من هوية العميل ومعرفة ما يقوم به، بالإضافة إلى تحديد ما إذا كان هناك خطر محتمل.
لكن إذا واجهت عميلًا عالي المخاطر مثل مسؤول حكومي، فلن تكون العناية الواجبة بالعملاء كافية. في هذه الحالة، يجب تنفيذ العناية الواجبة المعززة (EDD)، لأن الأشخاص البارزين سياسياً (PEPs) لديهم فرص أكبر للانخراط في الفساد أو غسيل الأموال.
ومن البديهي أن تحرص على تحديث سجلات KYC بانتظام، مما سيعطيك صورة واضحة عن عملائك وسلوكياتهم. على سبيل المثال، إذا بدأ عميل فجأة في إجراء تحويلات مالية ضخمة إلى الخارج، سوف تلاحظ ذلك فورًا.
تستخدم معظم البنوك أنظمة مراقبة المعاملات التي ترفع إشارات تحذيرية تلقائيًا عند رصد الأنشطة المشبوهة. تبحث هذه الأنظمة عن أنماط غير اعتيادية مثل التحويلات الكبيرة، أو السحوبات غير المعتادة، أو الودائع الصغيرة المتعددة.
على سبيل المثال، إذا كانت شركة معتادة على إيداع مبالغ صغيرة وبدأت فجأة في إجراء تحويلات ضخمة إلى حسابات خارجية، فإن النظام القائم على الذكاء الاصطناعي يكتشف هذا التغيير في السلوك ويرفعه للمراجعة.
يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل سلوكيات الماضي للتنبؤ بالمخاطر المستقبلية، كما يمكنه بناء ملف شخصي لكل عميل من خلال تحليل معاملاتهم المعتادة. إذا حدث شيء غير طبيعي، مثل سحب مبلغ غير اعتيادي أو تحويل مفاجئ إلى دولة أخرى، فإن ذلك يثير إشارات التحذير.
يتطلب التعرف على علامات غسيل الأموال مراقبة السلوكيات أو المعاملات التي تبدو غير منطقية.
فيما يلي بعض الأمثلة الواقعية على غسيل الأموال:
بين عامي 2007 و2015، تم تمرير أكثر من 200 مليار دولار من المعاملات المشبوهة عبر فرع بنك دانسكي في إستونيا. تُظهر هذه القضية خطورة عدم مراقبة الفروع الخارجية عن كثب وتبرز أهمية تطبيق ضوابط مكافحة غسيل الأموال العابرة للحدود.
تأسس بنك إتش إس بي سي في عام 1865، ويعمل في 60 ولاية قضائية مختلفة ويخدم ملايين العملاء، ومع ذلك، في عام 2012، فشل البنك في الامتثال للإجراءات بسبب ضعف تدابير إجراءات اعرف عميلك، مما سمح لعصابات المخدرات المكسيكية بغسل ملايين الدولارات الأمريكية. فشل البنك في الإبلاغ عن الأنشطة المشبوهة، واضطر لدفع غرامة قدرها 1.9 مليار دولار بعد اكتشاف الأمر.
يتساءل العديد من العاملين في مجال مكافحة غسيل الأموال أو أولئك الذين يطمحون للالتحاق بهذه المهنة حول كيفية اكتشاف غسيل الأموال في البنوك، بعيدًا عن إشارات التحذير المعتادة التي تذكرها الأدلة التنظيمية!
على الرغم من وجود نهج موحد للإجابة على هذا السؤال، إلا أن الواقع يشير إلى أن كل مؤسسة تتعامل مع قضية "كيفية اكتشاف غسيل الأموال" بطريقة مختلفة. يعتمد البعض على القوى البشرية فقط، بينما يعتمد آخرون على مزيج من التكنولوجيا والحدس البشري.
لذا، في مواقف مختلفة، عندما تتساءل "كيفية اكتشاف غسيل الأموال"، ستلاحظ أن إشارات التحذير أيضًا تختلف، ولهذا فإن من أفضل وأهم الوسائل لاكتشاف غسيل الأموال هو استخدام نظام أو برنامج مخصص للكشف عن غسيل الأموال.
يُعتمد في الكشف عن غسيل الأموال بشكل رئيسي على مدى قوة برنامج مكافحة غسيل الأموال في مؤسستك. لبناء برنامج قوي، يجب عليك اتباع أفضل الممارسات لاكتشاف غسيل الأموال:
يتكون البرنامج الجيد لمكافحة غسيل الأموال من أربعة عناصر أساسية:
إن تأسيس ثقافة تضع الامتثال في أولوياتها يُحدث فرقًا كبيرًا. يجب أن يشعر الموظفون بالراحة عند الإبلاغ عن الأنشطة المشبوهة، ويجب على القيادة أن تقدم نموذجًا يحتذى به من خلال جعل جهود مكافحة غسيل الأموال جزءًا أساسيًا من استراتيجيات المؤسسة.
يتطلب اكتشاف غسيل الأموال نهجًا استباقيًا، يعتمد على التكنولوجيا المتقدمة والاستراتيجيات الذكية. تتمكن المؤسسات المالية التي تستثمر في الأدوات المناسبة وتبني ثقافة قوية للامتثال من حماية نفسها والمساهمة في خلق بيئة اقتصادية أكثر أمانًا عالميًا.
لكي تتمكن من تتبع الأموال غير القانونية أو التعرف على إشارات غسيل الأموال، عليك البحث عن الأنماط غير المعتادة، لأن كل معاملة صغيرة قد تبدو عادية هي جزء من قصة أكبر. لذلك، من المفيد النظر في الصورة الكبيرة بجانب التفاصيل. عندما تطرح الأسئلة الصحيحة، ستحصل على نصف الإجابة، وهذه الأسئلة ليست ثابتة في جميع الحالات، لأن المجرمين، بمجرد أن يتعرفوا على آلية عمل مؤسستك أو طرق عمل الفريق، سيقومون بتكييف أساليبهم، وهذا هو التحدي الحقيقي في كيفية اكتشاف غسيل الأموال!