تشهد المؤسسات المالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حاجة متزايدة إلى تعزيز مبدأي المساءلة والشفافية، حيث تفرض التحولات المستمرة في البيئة التنظيمية والمالية تحديات متصاعدة، لذا تُطرح التساؤلات حول كيفية قدرة هذه المؤسسات على التكيف مع هذا المشهد المتغير.
وتكمن الإجابة في ضرورة تجاوز الأطر التقليدية للامتثال، والاتجاه نحو تبني الابتكار في أساليب تحديد المالك الحقيقي للكيانات القانونية.
يُعد المالك الحقيقي هو الشخص الطبيعي الذي يمتلك أو يسيطر في نهاية المطاف على كيان قانوني، إذ قد تُمارس هذه السيطرة أو الملكية بصورة غير مباشرة من خلال طبقات متعددة من الكيانات الوسيطة، أو عبر وكلاء، أو من خلال الصناديق الاستئمانية.
وقد أكدت مجموعة العمل المالي (FATF) في توصيتها رقم 24 على ضرورة تمكين السلطات المختصة من الوصول إلى معلومات كافية، دقيقة، ومحدثة بشأن الملكية الحقيقية للأشخاص الاعتباريين، حيث يُعد هذا التوجه أحد المحاور الأساسية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
تنص تشريعات مثل قانون الشفافية المؤسسية الأمريكي (Corporate Transparency Act)، وقاعدة الإبلاغ عن معلومات المالك الحقيقي الصادرة عن شبكة مكافحة الجرائم المالية الأمريكية (Financial Crimes Enforcement Network)، على أن المالك الحقيقي هو كل شخص:
وقد جاء هذا التعريف الثنائي بهدف تمكين الجهات الرقابية والمؤسسات المالية من كشف الهياكل المعقدة للملكية، حيث يتيح لها الوصول إلى الأفراد الذين يتمتعون بالنفوذ الاقتصادي أو السيطرة الفعلية.
تُمثل الملكية إمّا علاقة مباشرة، كامتلاك الأسهم، أو علاقة غير مباشرة، كامتلاك أسهم في شركة قابضة تملك بدورها الكيان المعني، كما تشمل الملكية عناصر متعددة، منها:
تُشير السيطرة إلى قدرة الشخص على اتخاذ قرارات حاسمة داخل الشركة، إذ يمكن أن تتجلى في إحدى الصور التالية:
ولذا، فإن الشخص الذي لا يملك حصة في الشركة قد يُعد مالكًا حقيقيًا، متى ما ثبت تمتّعه بسيطرة فعلية.
تُجسّد الملكية الحقيقية جوهر السيطرة والانتفاع، حيث تعكس من هو الشخص الذي يستفيد فعليًا من العمليات التي يقوم بها الكيان القانوني، حتى وإن لم يُذكر اسمه في السجلات الرسمية.
ويمثل المالك الحقيقي الطرف الذي يتمتع بالفوائد الاقتصادية، مثل الأرباح والتوزيعات وسلطة اتخاذ القرار، رغم أن صكوك الملكية القانونية قد تكون مسجّلة باسم جهة أو شخص آخر.
بمعنى آخر، تدل الملكية الحقيقية على الحق في التمتع بمنافع الملكية الفعلية لممتلكات أو كيانات، حتى وإن كانت الملكية القانونية مسجّلة باسم طرف آخر.
يتوزع المالكون الحقيقيون ضمن فئات متعددة، تختلف باختلاف هيكل الملكية وآليات السيطرة، حيث يمكن تصنيفهم كما يلي:
اقرأ أيضا: ما هي الركائز الخمس للامتثال لمكافحة غسل الأموال؟
تفرض الأطر التنظيمية تحديد المالكين الحقيقيين في حالات معينة، حيث يُلزم ذلك في الظروف الآتية:
فيما يلي منهجية مبسطة وفعّالة لتحديد هوية المالك الحقيقي:
جمع وثائق الكيان القانوني: ينبغي جمع المستندات الأساسية مثل شهادات المساهمين وسجلات السجل التجاري، وذلك لفهم الهيكل المؤسسي وملكية الشركة.
مراجعة سجل المساهمين: ابدأ بفحص سجل الشركة للتعرف على الأفراد الذين يمتلكون ما نسبته 25٪ أو أكثر من الأسهم أو حقوق التصويت، إذ يُعد هؤلاء في الغالب من المالكون الحقيقيون المباشرون.
تحليل عناصر السيطرة: لا تقتصر الملكية على الحيازة الرسمية للأسهم، إذ يتعين تحديد الأفراد الذين يملكون سلطة اتخاذ القرار، كالرؤساء التنفيذيين، وأعضاء مجلس الإدارة، أو من يُسهمون في توجيه القرارات الاستراتيجية.
التحقق من الملكية غير المباشرة: قد تُمارس الملكية الحقيقية عبر شركات قابضة أو صناديق ائتمانية، لذا يستلزم الأمر التحقق من الشركات الأم أو المستفيدين من الصناديق الاستئمانية للكشف عن المالكون الفعليون.
التأكد من وجود ملكية بالنيابة: يستخدم بعض الأشخاص وكلاء، كالمحامين أو المدراء، لتسجيل الملكية الشكلية بينما يستفيد المالك الحقيقي من الأصول فعليًا، لذا يجب التدقيق في دور الوكيل وكشف من يمثله فعليًا.
الاستفادة من السجلات العامة وإجراءات اعرف عميلك (KYC): تحتفظ العديد من الدول حاليًا بسجلات عامة للمالكين الحقيقيين، لذا من الضروري مطابقة هذه البيانات مع الإجراءات الداخلية لـ "اعرف عميلك" للتحقق من دقة المعلومات.
تنفيذ العناية الواجبة المعززة: في الحالات التي تنطوي على هياكل ملكية معقدة أو كيانات عالية المخاطر، ينبغي إجراء فحص دقيق ومعزز (EDD) لتتبع المالك الحقيقي بشكل أكثر عمقًا.
يتبع المنظمون في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي ومصرف البحرين المركزي، متطلبات تتماشى مع توصيات مجموعة العمل المالي (FATF)، وتشمل المعلومات الواجب جمعها ما يلي:
يمتلك السيد (أ) نسبة 40٪ من شركة (X) المسجلة في الأردن، وبالتالي يُعتبر مالكًا حقيقيًا مباشرًا.
تمتلك السيدة (ب) نسبة 60٪ من شركة (A)، التي تمتلك بدورها 30٪ من شركة (X) في الإمارات العربية المتحدة. وعليه، فإن ملكيتها الفعلية في شركة (X) تبلغ 18٪، وهي نسبة تتماشى مع الحد التنظيمي المطلوب.
تجدر الإشارة إلى أن حساب الملكية الفعلية عبر الشركات القابضة أو التابعة يتم من خلال ضرب نسب الملكية، ففي هذا المثال تُحسب ملكية السيدة (ب) في شركة (X) على النحو التالي: 60٪ من 30٪، أي ما يعادل 18٪.
في صندوق استئماني مسجل في مركز دبي المالي العالمي (DIFC)، يُعد السيد (ج) هو المستفيد الذي يتلقى التوزيعات من الشركة التابعة، وبالتالي يُعتبر المالك الحقيقي وفقًا للتشريعات المعمول بها في دولة الإمارات العربية المتحدة.
تُعد قاعدة العناية الواجبة للعملاء (CDD)، الصادرة عن شبكة مكافحة الجرائم المالية الأمريكية (FinCEN)، قاعدة ملزمة في الولايات المتحدة، إلا أن تأثيرها يمتد ليشمل المعايير المطبقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتُلزم هذه القاعدة المؤسسات المالية بالكشف عن المالكين الحقيقيين لأي شركة أو أصل.
وقد صيغت هذه القاعدة بهدف الحد من الجرائم المالية، مثل غسل الأموال والتهرب الضريبي، من خلال ضمان التعرف على الأفراد الفعليين الذين يقفون وراء الكيانات التجارية.
كما تُلزم الجهات التنظيمية، مثل مجموعة العمل المالي (FATF) والاتحاد الأوروبي (التوجيهين الرابع والخامس لمكافحة غسل الأموال - AMLD 4 & 5)، المؤسسات بالتحقق من هوية المالكون الحقيقيون والإفصاح عنهم. وفي الولايات المتحدة، يفرض قانون الشفافية المؤسسية نفس الالتزام.
يتعيّن على المؤسسات المالية جمع المعلومات الخاصة بالمالكين الحقيقيين والتحقق منها ضمن إجراءات "اعرف عميلك"، وذلك من خلال الوثائق الرسمية، كسجلات المساهمين، والمخططات التنظيمية، ومستندات إثبات الهوية.
اقرأ أيضا: إجراءات اعرف عميلك في السعودية: العقوبات ومتطلبات الامتثال
تختلف اللوائح المتعلقة بتقديم تقارير معلومات الملكية الحقيقية (BOI) من بلد إلى آخر. وفيما يلي لمحة عن ممارسات بعض الدول في هذا السياق:
اعتبارًا من 27 فبراير 2025، ألغت شبكة مكافحة الجرائم المالية الأمريكية (FinCEN) إلزام الشركات والأفراد في الولايات المتحدة بتقديم تقارير معلومات الملكية الحقيقية (BOI) بموجب قانون الشفافية المؤسسية، مما يعني أن الكيانات المحلية لم تعد مطالبة بتقديم هذه التقارير.
غير أن الكيانات الأجنبية التي تمارس أنشطة تجارية في الولايات المتحدة لا تزال خاضعة لمتطلبات الإبلاغ، كما يلي:
فرضت دولة الإمارات لوائح تُلزم الشركات بالاحتفاظ بمعلومات دقيقة حول المالكون الحقيقيون والإفصاح عنها، وذلك في إطار التزامها بتوصيات مجموعة العمل المالي (FATF). كما تتجه السلطات نحو إنشاء سجلات عامة للمالكين الحقيقيين.
يتوجب على الشركات تقديم المعلومات المطلوبة إلى دائرة التنمية الاقتصادية (DED) أو من خلال السلطات المختصة في المناطق الحرة. ويتعين على الشركات الإفصاح عن هذه المعلومات عند تسجيل الشركة، وتحديثها سنويًا أو عند أي تغيير في هيكل الملكية.
قد يؤدي عدم الامتثال للوائح المتعلقة بالإفصاح عن المالك الحقيقي إلى فرض غرامات تصل إلى مليون درهم إماراتي، بالإضافة إلى تقييد أنشطة الشركة، واتخاذ إجراءات قانونية مثل تعليق أو سحب الترخيص التجاري.
أصدرت المملكة لائحة تنظيم المالك الحقيقي في عام 2020، ضمن إطار مكافحة غسل الأموال، حيث تفرض على الشركات الإفصاح عن المالكون الحقيقيون عند التسجيل لدى وزارة الاستثمار (MISA).
وتتماشى هذه اللائحة مع توصيات مجموعة العمل المالي (FATF) لتعزيز الشفافية في الهياكل المؤسسية. يجب تقديم المعلومات المتعلقة بالمالك الحقيقي عند تسجيل الشركة، كما يتعين تحديثها عند حدوث أي تغييرات في هيكل الملكية.
تُعدّ معرفة المالك الحقيقي حجر الأساس في:
تكمن الأهمية في:
اقرأ أيضا: فحص العقوبات في الإمارات: الإطار التنظيمي وكيفية تنفيذ الفحص
فيما يلي أبرز التحديات التي تواجه المؤسسات المالية في تحديد المالكين الحقيقيين:
يقدم الجدول التالي تفاصيل أوجه الاختلاف بين المالك الحقيقي والمالك المسجَّل:
لطالما شكلت الهياكل التجارية المعقدة في المنطقة، من التكتلات العائلية إلى الكيانات الخارجية المركبة، تحديًا كبيرًا للجهات التنظيمية والمؤسسات المالية. ومع ذلك، فإن هذا التحدي يمثل فرصة حقيقية، إذ من خلال اعتماد نهج شامل يستند إلى البيانات الدقيقة في تحديد المالكين الحقيقيين، يمكن للمؤسسات ليس فقط الامتثال للمتطلبات التنظيمية المتطورة، بل أيضًا الحد من المخاطر المالية المتزايدة مثل غسل الأموال والتهرب الضريبي.
ولا يقتصر الأمر على الالتزام فقط، بل يمتد ليشمل مستقبل الاقتصاد في المنطقة. ففي ظل السعي نحو تنويع مصادر الدخل، يُعد كشف الطبقات الخفية وراء المعاملات المالية ضرورة لضمان بقاء أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تنافسية وشفافة ومحصنة. وكل مرة تقوم فيها مؤسسة مالية بالتحقق من هوية عملائها وفهم هيكل ملكيتهم الحقيقي، فإنها تُسهم في تعزيز سمعة المنطقة كمركز مالي موثوق وقوي على الصعيد العالمي.
المالك الحقيقي هو الشخص الطبيعي الذي:
بمعنى آخر، المالك الحقيقي هو من يجني الفائدة الاقتصادية الحقيقية ويتمتع بالسلطة الفعلية، حتى وإن لم يكن اسمه ظاهرًا في الوثائق القانونية.
لا يُعتبر مالكًا حقيقيًا كل من:
وباختصار، كل من لا يتمتع بسيطرة أو مصلحة جوهرية لا يُعد مالكًا حقيقيًا.
عادة ما يُحدد بنسبة 25%، إلا أن النسبة قد تختلف باختلاف الدول ومستوى المخاطر.
نعم، إذ قد تضم الشركة عدة مالكين حقيقيين، كلٌ منهم يمتلك حصة مؤهلة أو دورًا تحكّميًا في الإدارة أو السيطرة.