يعتبر النهج القائم على المخاطر (Risk-Based Approach) تحولاً جذرياً في كيفية تعامل المؤسسات المالية مع المخاطر المحتملة، حيث يعتمد على تقييم المخاطر بشكل مستمر وتكييف الإجراءات بناءً على درجة الخطر المحتمل، بدلاً من الاعتماد على قواعد ثابتة قد لا تكون مرنة بما يكفي لمواجهة التحديات المتغيرة. لذا، يهدف هذا المقال إلى تقديم فهم عميق للنهج القائم على المخاطر، وإبراز أهميته في السياق المالي، وتوضيح كيفية تطبيقه بفعالية.
يشير النهج القائم على المخاطر (RBA) إلى إطار عمل يركز على تحديد المخاطر المرتبطة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، ثم تقييمها وتصنيفها بناءً على شدتها واحتمالية حدوثها، ومن ثم تخصيص الموارد اللازمة لمكافحتها وفقاً للأولوية، حيث يُعتبر هذا النهج بديلاً عن النهج التقليدي القائم على القواعد (Rule-Based Approach) الذي يعتمد على اتباع قواعد وإجراءات موحدة دون مراعاة الفروق بين المخاطر المختلفة.
ظهر النهج القائم على المخاطر نتيجة لتزايد التعقيد في العمليات المالية وارتفاع مستوى تهديدات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مما أدى إلى ضرورة وجود إطار عمل مرن يتكيف مع المتغيرات، إذ أصدرت مجموعة العمل المالي (FATF) توصيات تدعو إلى اعتماد النهج القائم على المخاطر، حيث تطور هذا النهج ليصبح جزءاً أساسياً من استراتيجيات مكافحة غسل الأموال في المؤسسات المالية حول العالم.
في إدارة المخاطر المالية، تستخدم البنوك والشركات نهجاً قائماً على المخاطر لتحديد المخاطر المرتبطة بالقروض والاستثمارات. وكممثال على النهج القائم على المخاطر في غسيل الأموال، يمكن أن تقيم مؤسسة مالية المخاطر المرتبطة بمنح قرض لشركة بناء على عدة عوامل، منها الوضع المالي للشركة، تاريخها الائتماني، والتغيرات الاقتصادية المحتملة التي قد تؤثر على قدرتها على سداد القرض.
يعتمد النهج القائم على المخاطر في غسيل الأموال على عدة مكونات رئيسية، أولها هو تحديد وتقييم المخاطر، ثم إدارة المخاطر، والمرحلة الأخيرة هي مرحلة المراقبة.
تعرف على أفضل 5 برامج لمراقبة المعاملات المالية في عام 2024
يتطلب تطبيق النهج القائم على المخاطر في المؤسسات المالية اتباع خطوات منهجية تضمن فعالية التطبيق وسلامة العمليات المالية.
تواجه المؤسسات المالية تحديات متعددة عند تطبيق النهج القائم على المخاطر في مكافحة غسيل الأموال، منها نقص الوعي بالمخاطر، وعدم كفاية الموارد المخصصة لهذه المهمة، إذ يتطلب تطبيق RBA بنجاح تدريباً مستمراً للموظفين لضمان تفهمهم الكامل لآلية العمل، كما يجب على المؤسسات تبني تقنيات حديثة تساعدها في رصد المعاملات وتحليلها بدقة، حيث إن التحديات التقنية يمكن أن تؤثر بشكل كبير على فعالية النهج القائم على المخاطر، مما يجعل من الضروري الاستثمار في حلول تكنولوجية متقدمة.
تلتزم المؤسسات المالية بتطبيق النهج القائم على المخاطر وفقاً لتوصيات مجموعة العمل المالي (FATF)، التي تشجع على تطوير إطار عمل يستند إلى تقييم المخاطر كجزء من سياسات مكافحة غسل الأموال، حيث تنص التوصيات على ضرورة تحديد المخاطر وتقييمها بشكل مستمر، مع وضع استراتيجيات تتناسب مع مستوى الخطر، كما تُلزم المؤسسات بتقديم تقارير دورية حول الإجراءات المتبعة ونتائجها، مما يعزز الشفافية والمساءلة.
على الصعيد المحلي، تتفاوت التنظيمات المتعلقة بالنهج القائم على المخاطر من دولة إلى أخرى، حيث تطبق بعض الدول مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معايير صارمة لضمان الامتثال الكامل، إذ تُصدر الجهات الرقابية في هذه الدول توجيهات محددة للمؤسسات المالية حول كيفية تنفيذ النهج القائم على المخاطر بشكل صحيح، مما يساعد في تحسين مستوى الامتثال وتقليل فرص الفشل في كشف الأنشطة المشبوهة.
كما تتبع المملكة العربية السعودية النهج القائم على المخاطر في مجالات متعددة مثل خدمات تحويل الأموال وفي القطاع المصرفي والبطاقات مسبقة الدفع.
تتمثل الفوائد الرئيسية للنهج القائم على المخاطر في تحسين الكفاءة والفعالية في عمليات مكافحة غسل الأموال، إذ يتيح النهج القائم على المخاطر للمؤسسات توجيه مواردها إلى المناطق الأكثر عرضة للخطر، مما يقلل من الهدر في الموارد ويزيد من احتمالية اكتشاف الأنشطة غير القانونية، كما يساهم في تعزيز الثقة بين المؤسسات المالية وعملائها، حيث يُظهر التزاماً بالامتثال للقوانين وحماية النظام المالي من التهديدات.
علاوة على ذلك، يوفر النهج القائم على المخاطر مرونة وتكيفاً أكبر مع المتغيرات، حيث يمكن للمؤسسات تعديل سياساتها وإجراءاتها بسرعة استجابة للتغيرات في بيئة العمل أو ظهور تهديدات جديدة، كما يُعتبر النهج القائم على المخاطر أداةً فعالةً في الابتكار المالي، إذ يسمح بتطوير منتجات وخدمات جديدة مع مراعاة المخاطر المحتملة.
على الرغم من الفوائد العديدة للنهج القائم على المخاطر، إلا أنه لا يخلو من التحديات والمخاطر المرتبطة بتطبيقه، إذ تواجه المؤسسات المالية تحديات تنظيمية وتقنية، مثل صعوبة الحصول على البيانات الدقيقة والكافية لتقييم المخاطر، والحاجة إلى تكنولوجيا متقدمة لتحليل البيانات بشكل فعال، كما أن المؤسسات قد تواجه صعوبات في الامتثال للمتطلبات التنظيمية المتغيرة باستمرار، مما يستدعي تطوير حلول مبتكرة لتجاوز هذه التحديات.
يتعرض التقييم القائم على المخاطر أيضاً لبعض الانتقادات والمخاوف، إذ يرى بعض الخبراء أن التركيز على المخاطر العالية فقط قد يؤدي إلى تجاهل المخاطر الصغيرة التي يمكن أن تتراكم لتصبح خطيرة بمرور الوقت، كما أن سوء تطبيق النهج القائم على المخاطر قد يؤدي إلى فجوات في الرقابة تتيح للمجرمين استغلالها، لذا يتطلب الأمر من المؤسسات المالية اتخاذ الحيطة والحذر وضمان تطبيق النهج القائم على المخاطر بشكل متوازن ودقيق.
في ختام هذا المقال، يتضح أن النهج القائم على المخاطر (RBA) يمثل تحولاً مهماً في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث يتيح للمؤسسات المالية تطوير استراتيجيات أكثر فعالية ومرونة في مواجهة التهديدات المحتملة، كما أن تطبيق هذا النهج بشكل صحيح يتطلب فهمًا عميقًا للمخاطر، وتطوير سياسات وإجراءات تتناسب مع طبيعة العمل وحجم المخاطر المحددة.
لذا، يُوصى المؤسسات المالية بالاستمرار في تحسين تطبيق التقييم القائم على المخاطر من خلال الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة، وتدريب الموظفين بشكل مستمر، وضمان الامتثال للمعايير الدولية والتنظيمات المحلية، حيث إن الالتزام بهذه التوصيات سيساهم في تعزيز فعالية RBA والحفاظ على سلامة النظام المالي.